الدربونة تعني بالعراقي الفصيح الزقاق او الشارع الضيق. ولا ادري بالضبط أصل هذه الكلمة هل هو تركي ام فارسي ؟ حيث تصارعت هاتان الحضاراتان فيما بينهما طويلا. وكان العراق ساحة ذلك الصراع المرير بين الدولة العثمانية الممثلة للحضارة التركية وبين الدولة الصفوية الممثلة للحضارة الفارسية. فتارة ينتصُر الترك فيسرعون الى معاقبة الشيعة العراقيين بجريرة انتمائهم الى نفس مذهب الصفويين بالرغم من الفرق الشاسع بين التشيع الصفوي والتشيع العراقي والذي هو الوجه الحقيقي للتشيع العلوي , وتارة ينتصر الفرس فيسرعون للانتقام من السنة في العراق بجريرة انتمائهم الى نفس مذهب الاتراك بالرغم من البون الواسع بين التسنن العثماني والتسنن العراقي والذي هو امتدادٌ للتسنن العربي البدوي. المهم في الامر هو ان العراقيين كانوا ضحية ذلك الصراع الديني في ظاهره السياسي في باطنه.
واليوم يتكرر السيناريو ذاته ولكن مع تغيير في الاطراف حيث الصراع هذه المرة ثلاثي . اذ تتصارع ثلاثُ ارادات مختلفة على ارض الرافدين. ارادة الديمقراطية والحرية ممثلة بدول التحالف تقودها الولايات المتحدة كطرف خارجي ويصطف في خانة هذا الطرف كل القوى العراقية المؤمنة بالديمقراطية الليبرالية والتي قد لايكون معضمها مواليا في حقيقته لأمريكا بقدر ما هو موالي لمفاهيم الديمقراطية التي تحملها الحضارة الغربية عامة والأمريكية خاصة ومن هنا لا ملازمة بين الايمان بالديمقراطية الليبرالية كمنظومة مفاهيمية وبين الولاء والتبعية للغرب ولامريكا كما يحاول اعداء الديمقراطية الايحاء بذلك.
والارادة الثانية هي ارادة الحكم الشمولي الديني المتزمت ممثلا ً بايران كطرف خارجي وبالاحزاب الدينية المتأثرة بالتجربة الأيرانية او المؤمنة بالحكم الديني والتي قد لاتكون موالية ً في الحقيقة لأيران بقدر ما هي موالية لفكرة الحكم الديني وتحكيم الاسلام في الحياة السياسية والعامة للمجتمع والدولة على حد سواء ومصابة ُ بالشبق السلطوي وتطمح في الوصول الى دفة الحكم باسم الدين واللاهوت لكنها لا تقوى على التصريح بذلك.
والارادة الثالثة هي ارادة الانظمة الديكتاتورية الرجعية المتخلفة والرافضة للاصلاح والتغيير ممثلة بأغلب الدول العربية المجاورة وغير المجاورة للعراق كطرف خارجي ويندرج في خانتها كل القوى التي فقدت امتيازاتها السياسية من جراء عملية التغيير التي شهدها العراق والمشتركة مع الدول العربية بوحدة المذهب اعني القوى السنية العراقية ومن يدور في فلكها من عرب وغير عرب وافدين من الخارج. وميزة هذه القوى انها بخلاف القوى الديمقراطية او الدينية تدين بالولاء للانظمة العربية لانها مدانة بوجودها المادي والمعنوي لتلك الأنظمة ولأنها ايضا تمثل عمقها الاسيتراتيجي تجاه الشيعة والكورد.
بيد ان هنالك ارادة رابعة لكنها صامتة اي لاتخوض صراعا ضد أي من الاطراف المذكورة غير انها تلعب دوراً عظيما ًفي السيطرة على الشارع العراقي موضوع تنافس تلك الارادات وكذلك تنظيم ذلك العراك ولجمه قدر المستطاع عن الخروج على الحدود المرسومة اليه تلك هي ما يمكن تسميتها بـ ( الارادة السيستانية ) والتي تمثل نقطة التوازن ونقطة التقاء لبقية الارادات.
الارادة السيستانية هي انعكاس لحكمة المرجعية النجفية بتاريخها المجيد وتساميها على المصالح الايديولوجية او السياسية او الحزبية الضيقة. في خضم هذا الصراع المرير بين تلك القوى الخارجية القادمة للعراق سعيا ً وراء مصالحها القومية اوالقوى المحلية اللاهثة وراء مصالحها الفئوية او الحزبية يقف السيستاني طودا ً شامخا ً مدافعا ً عن مصلحة العراق و العراقيين لا تأخذه في الله وفي العراقيين لومة لائم او يثنيه عن دوره الرباني الكبير ارجاف المرجفيين او تشكيك المغرضين او تهديد المجرمين.
تتجلى قوة ارادة هذا الرجل وعظيم شأنه وعلو كعبه ورفيع منزلته في (دربونته) حيث بيته المتواضع في احدى محلات النجف الاشرف القديمة , تلك الدربونة التي راح يحج اليها القاصي والداني طمعا في لقاء( السيد) الثمانيني . اضحت دربونته أشهر من نار على علم فبين زائرٍ دولي او موفدٍ افليمي او مراجع محلي تغص بهم اروقة تلك الدربونة التي باتت اليوم بالنسبة الى اكثر العراقيين من سياسيين وغير سياسيين الركن الامين في المحن والشدائد.
تنبه الانتهازي الى اهمية (دربونة) السيستاني فراح يتحين الفرص واحيانا ً كثيرة ً يصنعها كيما تطأ قدماه الدربونة حيث وسائل الاعلام أتخذت لها مقاما ً دائما ً هناك لتصوير الزائين ونقل اخبارهم للمشاهدين , و ما عليك ان كنت سياسيا ً فاشلا ً او انتهازيا ً مغمورا ً الا ان تحث الخطى صوب (الدربونة) لتجد نفسك وقد اصبحت حديث الشارع ومادة الاعلام وما عليك الا ان تلج بيت السيد للحظات وتخرج على الناس لتحدثهم بوصايا السيد اليك وتكون بذلك ضربت اكثر من عصفور بحجر.
فأتباع السيستاني وهم أغلب العراقيين سيثقون بتقواك وأيمانك بخط المرجعية. وخصومك السياسيون سيحسبون لك بعد هذه الزيارة الف حساب لانك موضع ثقة المرجعية التي فتحت اليك بابها ومحل بركتها, والدول صاحبة الشأن في العراق والمتناحرة فيما بينها ستبعث وراءك تفاوضك لأنك ابن المرجعية ( البار) وتدخل معك في مساومات لا تنتهي الا وحسابك المصرفي قد أمتلئ بملايين الدولارات أو التومانات او الريالات كي تعينيك في صراعك ضد الاضداد.
واذا كنت زعيما لتنظيم وتعاني من مناكفة خصومك الحزبيين أمكنك بزيارة خاطفة لدربونة السيستاني من توجيه ضربة قاضية لهم وكسب ودَّ قاعدة التنظيم. أما اذا كنت طامعا ً في تجديد فترة رئاستك للوزراة او الفوز بالانتخابات القادمة فما عليك الا بتكرار زيارة ( الدربونة) والتصريح بعدها وتحديدا ً عند رأس ( الدربونة) بأن السيد السيتساني بارك جهودك واثتنى على انجازاتك حتى وان تردت احوال البلاد وفسدت مصالح العباد في ايام حكمك الثقيل. نعم فدربونة السيستاني تفعل العجائب اليوم.
لكن مع كل ذلك يبقى صاحب الدربونة أطهر من كلِّ ألاعيب الساسة والقادة , وفوق ألاتجاهات والميول, ولطالما أكد ويؤكد حرصه على الجميع ورفضه لمحاباة زيد او عمر. فهو ابو العراقيين بعربهم وعجمهمهم , بشيعتهم وسنتهم , بمسلميهم ومسيحييهم وصابئتهم, بمؤمنيهم وملحديهم , الخيمة التي يستظل بها الجميع , وهو ذو القلب الرحيم الكبير والعقل النير الحكيم. لا تغره زيارة من زاره وتحدثَّ باسمه او تجنى عليه مثلما لاتضره مقاطعة من قاطعه.
سيبقى السيستاني عصيا ً على الانتهازيين والفاشلين, وسداً منيعا ً بوجه كل المؤامرات التي تحاك ضد العراقيين وصمام الامان في صراع الارادات الوافدة على ارض الانبياء والأوصياء . واذا نجح بعضهم في تجيير أسم السيتساني في الايام السابقة فان أمره بات مكشوفا وعمره قصيرا ً وأيامه أمست معدودة ً وستلاحقة لعنة السيد الكريم ودربونته أبد الأبدين وسيركله ابناء المقابر الجماعية في الانتخابات القادمة الى مزبلة التاريخ وأن شهر كانون الاول لناظره لقريب