اذا كان لشعوب الارض من مدن تفتخر بها وبانجازات أبنائها , فهذا حق مكفول لكل المنصفين في العراق مع هذه المدينة العراقية الاصيلة . انها مدينة الصدر في تسميتها الجديدة والتي حصلت عليها قبل سقوط الصنم بساعات !! وهذه الحالة موثقة تلفزيونيآ. ومن يعرف هذه المدينة واهلها الطيبين لايستغرب ولاتصيبه الدهشة لردة الفعل واختيار الاسم الجديد بهذه السرعة ,
كانت تسمى سابقآ " الثورة " نسبة الى ثورة الزعيم الوطني العراقي الراحل عبد الكريم قاسم , والذي كان يحضى بمحبة واعتزاز كبيرين عند اهالي هذه المدينة المميزة , نتيجة لمواقفه الانسانية معهم اضافة عنصر الشراكة الكبير بين الاثنين والذي يختصر بعنوان كبير اسمه " الوطنية و حب العراق " لذلك لم يخذلوه يوم حوصر في وزارة الدفاع من قبل مدافع ورموز الغدر والطائفية عام 1963 فزحفوا مشيآ وركضآ على الاقدام من مدينتهم وحتى مبنى الوزارة وهم يحملون بايدهم سلاحهم البسيط من السكاكين " والمكاوير " و يهتفون بحياته ويطالبون بمدهم بالسلاح لاجل القتال دفاعآ عنه وعن تلك الثورة الوطنية العظيمة في تاريخ العراق الحديث. لكنه ولانه الكريم الذي يجود باغلى درجات الجود بالنفس رفض ان يضحي بهم وبدمائهم فقدم نفسه على انفسهم في تصرف شهم وتاريخي قل ان اشار اليه احد الباحثين في تلك المرحلة الفاصلة من تاريخ البلد . وهو متفرد بهذا التصرف على كل الذين خلفوه في موقع الحكم في العراق حيث كانوا وقت تحين ساعة حسابهم يلوذون اما بعشائرهم او بتلك القرى البائسة التي انطلقوا منها لكي يحولوا كل البلد الى قرية متخلفة او أرث طائفي ايام الحكم العارفي . و كانت خاتمة السواد وذلك البؤس الطائفي والتخلف القروي بتلك الحفرة الحقيرة التي لاذ بها ابن العوجة . ومع كل هولاء كانت مدينة الثورة كابوس يقلق ويهز مضاجع الحكام حتى وصفها صدام في احدى اجتماعاته " بالسكين التي تنبت بالخاصرة " وكان ان أمر في عقد الثمانينات باعداد دراسة لغرض تهجير اهالي المدينة وبناء عدة مدن لهم في مناطق صحراوية متفرقة بعيدة عن بغداد وعن الحزام الذي يحيط بها . لكن الحرب مع ايران وحرب الكويت والحصار كانت العائق امام حلمه المريض هذا .
وتصوره لم ياتي من فراغ لان اكثر مدينة عراقية خرجت مظاهرات وناضلت ضد الطاغية هذه المدينة البطلة واعطت الكثير من ابنائها قربان للعراق ويوم كانت مدن اخرى ترقص " الجوبي " وتنحر الاضاحي فرحآ لقدوم الصنم , كانت جماهير هذه المدينة تهتف بحضوره " الخائن شعبه نكص أيده " ليلتقط الاشارة جيدآويامر بايقاف هذه الاهزوجة وهو يغادر المنصة غاضبآ مرددآ ان " لاخائن بيننا " !!
وكان النظام يصر على زيادة فقر المدينة فقرآ ويحاصر حياتهم بقطع الماء والكهرباء والتلفونات وحتى بؤس المستشفيات فيها وعدم تعينهم بالوظائف الجيدة , لكن كل ذلك كان يعطي نتائج عكسية من خلال اصرارهم على العلنية في معادتهم له , بخفة دم واريحية عرفت عن شباب واهل هذه المدينة الكريمة , ويوم فرض الصنم اسمه على مدينتهم من خلال مطيته " سمير الشيخلي " كان اصرارهم عجيب على تمسكهم باسم الثورة وبشكل فيه مخاطر كبيرة عليهم فكانوا يكتبو ن على غلاف الرسالة اسم الثورة وفي معاملاتهم وحتى في مواقف الباصات التي تنطلق لهم من كل نواحي بغداد كانوا ينادون " ثورة ثورة " !!
ومع كل هذا الجبروت الصدامي , لكنه كان يرتجف خوفآ وقلقآ من هذه المدينة واهلها الابطال , حتى انه كان يضع على اسطح بناية وزارة الدفاع الحديثة " وزارة النفط سابقآ " مدافع رباعية موجهة صوب المدينة دون كل الجهات الاخرى مع وجود اوامر جاهزة للرمي الحر اتجاه اي حركة غير طبيعية تصدر من شوارع الثورة , وفي الانتفاضة الشعبانية البطلة نصبت المشانق على تلال منطقة السدة في المدينة وبجوارها صواريخ ارض – ارض والمدفعية , لكن كل ذلك لم يخيفهم فخرجوا بمظاهرة عارمة وهادرة تلعن الظلم والظالمين وتتحدى الطاغوت ودفعوا جراء ذلك ضريبة كبيرة من خيرة ابنائهم شهداء ومفقودين حتى يومنا هذا, وعندما كان النظام وازلامه يطلقون على اهل المدينة وكل اهل الفرات الاوسط والجنوب اسم " الشروكية والمعدان " كمحاولة دونية للنيل من اهل العراق الحقيقين .. كان رد الثورة جاهزآ ومعبرآ " يااهل العجل يابه العربجة " فلم يصمد الصنم امامهم رغم انه كان يملك بين يده كل ادوات واجهزة القتل والبطش فنزل بنفسه الى الساحة مشاركآ للنيل من اهل المدينة الابطال الكرام عندما زار مدير الناحية في مكتبه وبث الصور والصوت من التلفاز وهو يشرح له ولاهل المدينة من خلاله " كيف يكون الرجل نظيفآ وكيف ينبغي ان يكون حال المراة وملابسها وكيف يجب ان يغسلوا ايديهم ... والخ " وفات على ابن العوجة ان اولئك هم ابناء الجنوب وميسان بالذات .. يوم كانت اول مملكة في التاريخ تنطلق من هنالك " مملكة ميسان " ويوم كانت اولى الحضارات وهي تحمل معها الحرف الاول للكتابة والقيثارة الاولى للعزف والعجلة الاولى في التاريخ البشري تنطلق من اهوارهم .. بذات الوقت التي كانت العوجة لاتوجد على خارطة الدنيا , وحتى حين تكونها ووجودها فيما بعد كانت مستقر للجيش العثماني , يستقر بها الجنود لياخذوا قسط من الراحة وتعويض انقطاعهم عن زوجاتهم ونسائهم !!
اما اهل ميسان فكانوا بهذا الوقت يحاربون العثمانيون في الكحلاء والمجر الكبير ويطردوهم ومثلها فعلوا فيما بعد مع الانكليز المحتل لذلك قد لايكون مصادفة ان لاتجد بينهم من وجوهم ليس بعراقية ولاعربية كما ماموجود في مدن اخرى . ولان العلم الحديث اثبت بما لايقبل الشك الى انتقال الجينات الوراثية من الاجداد الى الاحفاد عبر التاريخ ثابت ومحدد .. لذلك ولدت العوجة مجرمين ارذال اولاد عوجة مثل صدام وحسين وصدام كامل وعلي كمياوي وعدي وقصي وطلفاح وبرزان ووطبان وسبعاوي وذلك النسل الاعوج من اولادهم .. اما في جانب الخير والحضارة من هذه الجينات منحتنا مدينة الصدر رموز للفن والادب والشعر والرياضة والصحافة وحتى طلاب متميزين للحوزة العلمية في النجف الاشرف , وكانوا ومازالوا حصة الحوزة والعراق ورجالها للمواقف الصعبة , واصحاب الميزان والقسط في بغداد التاريخ والحضارة فلولا وجود مدينة الصدر وتوأمها مدينة الصدرين الشعلة لاصبحت بغداد ارض خربة هامدة دون روح او نفس يذكر بدون فن ورياضة وفكر وشعر وحتى مجتمع حيآ واصيلآ .. ولولآ وجود هاذين المدينتين اضافة الى المدن الاخرى المعروفة والبارزة في بغداد لاصبح الامام الكاظم " ع" غريب غريب .. ولتعرض الى عمل اكثر لئم وارهاب واكبر كفر من الذي تعرض له مرقد الامامين " العسكري والجواد " .
انها مدينة المليونين ونصف المليون نسمة وفقط مع توأمها مدينة الصدرين الشعلة يشكلان حوالي ثلثي مدينة بغداد , وكان موقفهم في الانتخابات والتصويت على الدستور وغيرها من المواقف الوطنية الاخرى جعلهم هدف للبهائم والسيارات المفخخة لتنفجر في يوم واحد فقط سبعة سيارات ويسقط اكثر من سبعين شهيدآ ومئات الجرحى , وظن الاوباش المجرمين انهم يخيفون ابناء الصدر بهذه الجرائم الجبانة وفات عليهم ان كل طاغوت صدام وجبروته كان يرتجف منهم وعيونه لاتفارقهم . ومن هذا المنطلق ممكن تفهم تصريح عصام الراوي ممثل هيئة علماء السنة على قناة الديار عندما قال نصآ " ان بغداد مدينة سنية لان مدينة الصدر والشعلة ليس من اهالي بغداد بل من الجنوب وميسان على وجه الخصوص جاء بهم عبد الكريم قاسم!! "
وهذا الرجل خانته وطنيته بتصريحه هذا مرتين . الاولى أن بغداد هي عراقية ومركز وعاصمة كل العراق , وثم ان هولاء هم اهل العراق وروحه المتجددة ولايحتاجون شهادة تأيد وتنزيه من الاخرين . وعليه ان يعطي للبلد ولو جزء صغير من تضحية هذه المدن او من هباتها المتالقة في الرياضة والفن والشعر والادب وحتى الوطنية .
مازلت اذكر تلك السنوات الجميلة من حياتي , حيث ورغم اني لم اسكن في تلك المدينة المميزة يوما واحدآ في حياتي , لكني كنت احرص كل نهاية اسبوع ان اشق طريقي نحوها من اقصى الكرخ الى اقصى الرصافة حيث تكون الثورة وخاصة بعد انتهاء مباريات الدوري او المنتخب مباشرة لاعيش تلك الاجواء الرياضية والاجتماعية والفكاهية الفريدة في التعليق والجدال على تلك المباريات بين أحبتي الكثيرين والعزيزين في أزقتها وشوارعها وايضآ مع رؤية بعض نجومها المميزين في الرياضة امثال المرحومين ناطق هاشم وكاظم لعيبي والمتالقين من المنتخب العراقي لكرة القدم امثال شاكر محمود وفيصل عزيز ومهدي جاسم وكاظم محسن والجوهرة يونس عبد علي وكريم صدام وحسين لعيبي واغلب هولاء وغيرهم تخرج من فريق المتنتظر الشهير في ذلك الوقت والذي كان يطلق عليه " مانجستر يونايتد الثورة " .
ولاافشي سرآ ان احد ابناء هذه المدينة " وهو الان من الشخصيات البارزة في عالم السياسة للعراق الجديد " رافقني الى مدينة النجف الاشرف ليضعني وجهآ لوجه في غرفة صغيرة ومتواضعة امام سماحة السيد الشهيد الصدر " رحمة الله عليه " وليؤسس نقطة تحول مهمة لي في كل حياتي .
واليوم وبعد سقوط الصنم بثلاث سنوات , ماذا قدم السياسين الجدد والحكومات الثلاثة الوقتية المتعاقبه لاهالي هذه المدينة البطلة والفقيرة " ماديآ " والصابرة .. الجواب المنصف للاسف الشديد لم يقدموا ورغم مواقفها معهم واهميتها الكبيرة لهم شيئآ يستحق الذكر والاحترام !! سوى مبادرات فردية متفرقة وغير جوهرية ولاتغير من واقعهم المتعب شيئآ , بل ان احد الابطال رئيس الحكومة المؤقتة بعد حكومة بريمر تجرأ عليهم واخذ دباباته ودبابات وطائرات قوات التحالف ليهدم بيوتهم على رؤوسهم وليقتل ابنائهم ويبدوا ان هذا الرجل على ذكائه كان يعاني من " فقر دم في قراءة التاريخ القريب "
لذلك كانت خسارته كبيرة حيث تصدوا ابناء المدينة بشجاعة وبسالة الى هذا العدوان ونهضت كل مدن العراق الحرة تساندهم , وايضآ قاموا بتوجيه الصفعة المناسبة في تقزيم حجمه ودوره السياسي في العراق الجديد رغم كل الدعم الخارجي الذي حصل عليه وما زالوا حتى يومنا هذا يحفظون له الموقف جيدآ . فتحية الى الثورة يوم كانت مجرد بيوت من طين وصرايف من سعف نخيل وقصب بردي , وتحية الى مدينة الصدر وهي مدينة متعبة وبيوت قديمة وفقيرة , لكنها ثرية بمواقفها الوطنية وهباتها التي لاتنقطع عن الوطن .
انا شخصيآ لاارى الفرق كبير بين اسم الثورة وتسميتها الجديدة مدينة الصدر ... لان الصدر هو الثورة بعينها وهو انتفاضة الخير والدين على الظلم والاستبداد . انه ذلك الرمز الكبير والجليل الذي توشح ببياض الموت واستقبله بصدره فرحآ مستبشرآ .. وهو الذي كان يقول ويردد " ماهي الاطلقة واحدة " وهم يستحقون الاسم والمعنى لانهم وقفوا معه وجعلوا من الكوفة هدفهم الكريم كل جمعة في أوج اجرام الصنم الساقط , وجعلوا من المشي الى ابو عبد الله الحسين "ع" طريقآ لاينقطع . والسيد الصدر يستحقهم ابناء بررة له حفظوا العهد والامانة وساروا على الدرب الذي رسمه لهم .. فكانت ثورة الصدر ,و مدينة الصدر الثورة