سچين وملح
طلع الرفيق موحان في منطقة قطاع (33) مثلما يطلع الفطر السام، طلع في 7 نيسان يرتدي أبهى ملابسه: بنطلون أخضر مع قميص مربعات لونه رملي وجوزي، يحمل بيده اليمنى دفتراً متسخاً مع كراريس، ويحمل وجهاً بشوشاً كأنه يعرف الجميع منذ زمن بعيد والجميع يعرفونه ، بينما لم يلحظه أو ينتبه الى شخصيته أحد. ربما أدخر وجوده وخبأه ليطلع على الناس في هذه الايام، بدا سلساً ناعم المعشر عكس أخيه (فرحان) الشبح، الذي كان معروفاً بدقة ذهابه وأيابه اثناء دوامه في وزارة الصحة بصفة معاون طبيب. (فرحان) الشبح لا يمشي بل يسيلُ على الارض مسكوباً، يدبُّ مثل دودة كبيرة تلبس عوينات سميكة(چعب إستكان) لا يسلم على أحد ولا يسلم عليه أحد، لكنه حين يمرُّ تتحرك أوراق شجيرات الخروع والسيسبان وزهرة الشمس، وتتمايل أعواد القصب والبردي في الحدائق الكبيرة المنتشرة أمام البيوت، حين يمر يخرس الدجاج وينكمش البطّ خانساً، وتنسل الكلاب الى اقرب ملاذ تضع ذيولها بين ساقيها. فرحان الشبح يمرُّ مثل النسيم المخيف في أفلام الرعب.
ـ سچين وملح... سچين وملح... سچين وملح.
إستغربَ الناس من صيحات الأطفال(سچين وملح) هذه، فالوقت ليس وقت غروب ولا ليل، كذلك عدم وجود طائر (الططيوي) في الجو ولم يسمعوا زعيقه المشؤوم، الذي يتطير منه معظم الناس، إذ لا بد من حدوث مصيبة في البيت الذي يزعق فوقه طائر (الططيوي). تكررت صيحات الاطفال (سچين وملح) حين مرّ الرفيق موحان بملابس العيد من أمامهم. هذه الكلمة السحرية تبطل مفعول المصيبة المخبوءة في زعيق الططوة كما هو شائع في المدينة الغبارية، تلك المدينة التي إنبثقت بعكس جميع مدن العالم، إذ بدأت بظهور خرائب وأطلال من الطوف، كأنها مدينة أثرية مطمورة، إنزاحَ عنها التراب والغبار وبانت بعض معالمها المدفونة:
هنا كوخ طيني نبع حوله أطفال نصف عراة يلعبون (الغميضة)، وهناك طلع بيت طيني مسوّر بالتنك والسعف والقصب، يعجُّ بالثغاء والرغاء والنهيق، يخفق حوله البط ودجاج يتقافز من تحت اقدام رجال بدشاديش ويشماغ سومري يشبه شباك الصيد، يجلسون عصراً أمام الباب ودلة القهوة مثل راقصة وسط الجمر، يشربون الفنجان تلو الفنجان ويدخنون سجائر لف.
وبين سنة وضحاها تكشفت أكبر مدينة أثرية فوق سطح الارض، انقسمت عمودياً الى (الچوادر) و (الداخل) والى قطاعات بعدد خرز المسبحة السوداء، وسرعان ما إمتدت وتضخمت حبورة بنشوة الوجود الحي، ولولا قناة الجيش من أمامها والسدة الترابية من خلفها لاجتاحت بغداد بكرخها ورصافتها، ولكن طائر الططيوي يزعق فوقها دائماً.
يقول كشكول صاحب أقدم دكان في المدينة:
ـ گاع الثورة عطشانه للزرع... والعباس اذا تفلت وانت ماشي رأساً تخضر وراك نخلة.
ولأنها بلا مجاري تحت الارض فقد تكاثف القصب والبردي والخروع والسيسبان وزهور الشمس أمام البيوت، إندلعت الحدائق من الماء المستعمل الخارج من البيوت.
في صباح اليوم التالي ( 8 نيسان، إختفى ثلاثة شباب من منطقة دكان كشكول في قطاع (33). يقول جيرانهم:
سمعنا زعيق الططوة فوق بيوت هولاء الشباب ولم نسمع صيحات (سچين وملح).